في الثقافة الشعبية العربية عندما يٌراد الهزء بكلام ما والانتقاص من قيمته وأهميته يقال عنه: حكي نسوان، والمرادف الشعبي: الحكي الفاضي. وعندما يقولون: كلمة رجاّل. تعني صدق الوعد. وإذا أرادوا أن يصفوا امرأة بالشجاعة وقوة الشخصية، قالوا: أخت رجال. والأمثلة كثيرة على المكانة المتدنية التي ترزح فيها المرأة في مجتمعاتنا، بدءا بالشارع البسيط وانتهاء بالبنية لفوقية للمجتمع من نخب ثقافية وما شابهها؟!
باستعراض سريع للتاريخ القريب والبعيد، نرى أن "حكي النسوان"، وقبل أن يتم تحويله وتمييعه ضمن مجتمع الحرملك المغلق، كان عالماً تخييلياً، خرجت منه الحياة بأوسع معانيها، ونحن نذكر الكتاب الشهير: ألف ليلة وليلة -كتاب الأنثى الحكّاءة- التي خرجت من عباءة الغباء والجمود، لتنقذ عبر لسانها وحكيها، بنات جيلها اللواتي صب عليهن شهريار جام غضبه، بعد أن كان يقتل عروسه في صباح اليوم التالي لعرسها. رغم أن بعض الدراسات الأنتروبولوجية و النقدية السيميائية وغيرها، اعتبر ت أن ألف ليلة وليلة هو كتاب بطريركي بامتياز.
كانت شهرزاد أم الحكاية العربية. وهي لم تنقذ بنات جنسها من القتل فحسب، بل أنقذت شهريار من نفسه، وكراهيته، وصنعت الحب بحكايات الغواية، بحروف وكلمات منحرفة عن كل مستقيم، وداخلة في دائرة اللامنتهي، تغزل بلسانها أساطير لم يعرف تاريخ الأدب أكثر روعة وجمالاً منها. وفي القرن الثامن عشر عندما قام انطون غالان بترجمة كتاب ألف ليلة وليلة، كان خيال شهرزاد الغريب هو من فتن كتاب أوروبا، وجعلهم، باعتراف الكثيرين منهم، يخلقون من كتاباتهم عالماً من الأساطير المروي عن "حكي النسوان". وأضحى ألف ليلة وليلة من ضمن الكتب القليلة التي لازمت الكاتب الأرجنتيني الرائع خورخي لويس بروخس، حتى أنه أسماها: الليالي العربية.
أما في العالم الإغريقي، وعندما قام العلامة فينست دو بوفيه ( 1256 ) بتجميع أراء الكتاب، سجل في موسوعته الكبيرة عن العالم (speculum majus) أماكن ولادة عشر عرافات إغريقيات (كوميه، كومه، دلفي، ارثراي، هلسبونت، ليبيا، الفارسية، إفريقيا، ساموس، وتيبور).
وأولئك العرافات كن يحظين بمكانة مهمة في المجتمع الإغريقي، يعرفن الزمن، يتنبأن من خلال علومهن ومعارفهن بالأحداث، يلجأ إلى حكيهن كل محتاج، ويتبوأن مكاناً مهماً في المجتمع. كان يقال أن العرافة "كوميه" قامت بكتابة تسعة كتب وطرحتها للبيع على "تارغوينيوس" سابع وآخر ملوك روما. ولعل العرافة الآرثرية التي تنبأت باشتعال حروب طروادة كانت أشهر من قادتها أنفسهم، حتى أن مدينتي: ارثريا ومدينة ماربسوس تقاتلا على أحقية كل منهما بنسبها.
فيما حرض البطريرك كيريولوس في سنة 415 مجموعة من الشباب المسيحي المتعصب على الفيلسوفة والرياضية الوثنية هباتا، بعد أن انتزعت من منزلها، وقطعت أوصالها، وأحرقت جثتها في مكان عام. ورغم ذلك فان تمسك قسطنطين نفسه (أول إمبراطور مسيحي) بنبوءة العرافة الارثرية عن قدوم المسيح، تدل رغم كل شيء على الأثر الكبير الذي كانت تحتله المرأة. لذلك تظهر العرافة الارثرية، رغم وثنيتها، في سقف الكنيسة السكستينية كواحدة من أربع عرافات يحطن بمجموعة من أنبياء العهد القديم الأربعة كما صورها مايكل آنجلو،..
ولعل الأمثلة كثيرة عن محاكم التفتيش في أوروبا "القرون الوسطى" عندما كانت تتعرض النساء الجميلات والذكيات، اللواتي كن يملكن قسطاً من الحرية والعقل وحس الجدل والمحاورة، للحرق تحت شعار محاربة السحر والهرطقة فيهن.
والحديث عن زينب فواز، التي تعتبر من أوائل كاتبات الرواية في العالم العربي "أواخر القرن التاسع عشر"، قد يطول، ولكن هذا من باب التذكير فقط. ولن أتساءل لماذا لا يتم الحديث عن فرجينيا ولف بالطريقة نفسها التي يتم الحديث بها عن جيمس جويس عندما يتناول النقاد الرواية الإنكليزية الحديثة، لأني لن أكرر ما قالته الكثير من النساء اللواتي تحدثن عن حقوق المرأة..
ولكني سأقول: إن حكي النسوان الذي يشار إليه باستخفاف، هو من صنع تاريخاً موازياً وهامشياً بعيداً عن أضواء الانتصارات السياسية العسكرية للقادة الذين كانوا يرسمون خارطة العالم من زمن إلى زمن.
حكي النسوان: صانع التفاصيل الإنسانية الصغيرة التي كانت دائما تعبيراً عن الظلم البشري، حيث المرأة تقف إلى جانب الرجال المهمشين أيضاً، لكنها بالحكي نفسه تصنع لهم الحب وغواية البقاء والاستمرار.
حكي النسوان: مخيلة البشرية المركونة في زوايا النوافذ المهملة، الظامئة دائماً وأبداً إلى شهوة الانعتاق ، في مكان مظلم من هذه الحياة الفاقدة حسها بالعدالة.